النعيم المقيم (6)
-طعام أهل الجنة وشرابهم-
الحمد لله الذي جعل الجنة أجرا للعاملين ودارا للمتقين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجّلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن كانت الجنة دار اللذة والنعيم، فقد جعل الله لأوليائه فيها صنوفا من المطاعم والمشارب يتنعمون بها في كل وقت وحين، عطاءً من ربٍ كريم وجزاءً للسعي المشكور، فيزول التعب وينقضي الجوع والنصب، وينعم المؤمنون إلى الأبد فيما اشتهت أنفسهم، بعد أن أمضوا حياتهم في الصبر عن ملذات الدنيا وشهواتها طمعًا فيما عند الله تعالى، فما عند الله خير وأبقى، وهل هناك خير وأبقى من جنة الخلد؟!
وفي هذا المقال من هذه السلسلة الوعظية نتناول ما ذكره الله تعالى عن أوصاف طعام وشراب أهل الجنة في دار النعيم المقيم.
فاكهين بما آتاهم
إن رزق أهل الجنة غير مقطوع ولا ممنوع، فلهم من أنواع الطيبات المأكولة والمشروبة على اختلاف أصنافها وألوانها من غير استثناء لصنف أو لون، بل ما لذّ وطاب يأكلونها تفكّها وتنعّما من غير جوع إذْ ليس في الجنة جوع، قال ربنا الرحمن سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور]، قال ابن كثير: "أي: يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ، من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك"[التفسير].
وهم مخلدون في هذه النعائم فلا تنقضي ولا تنقطع، لقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف]، قال ابن كثير: "{وَتَلَذُّ الأعْيُنُ} أي: طيب الطعم والريح وحسن المنظر، {وأنتم فيها} أي: في الجنة {خالدون}: لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا، ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} أي: أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدا عمله الجنة، ولكن بفضل من الله ورحمته". [التفسير]
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات]، قال الطبري: "(وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، يأكلون منها كلما اشتهوا لا يخافون ضرّها، ولا عاقبة مكروهها، وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: يُقال لهم: كلوا أيها القوم من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما اشتهيتم هنيئا، لا تكدير عليكم، ولا تنغيص فيما تأكلونه وتشربون منه، ولكنه لكم دائم، لا يزول، ومريء لا يورثكم أذى في أبدانكم" [التفسير].
وقد ذكر الله أن الولدان المخلّدين حاضرون لخدمة المؤمن في الجنة، يُقدمون لهم أنواع المآكل والمشارب بين يديه تأتي صحفة وتذهب أخرى، قال ربنا الكريم سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قال ابن جرير: "وقوله: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: ويطوف هؤلاء الولدان المخلدون على هؤلاء السابقين بفاكهة من الفواكه التي يتخيرونها من الجنة لأنفسهم، وتشتهيها نفوسهم (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يقول: ويطوفون أيضا عليهم بلحم طير مما يشتهون من الطير الذي تشتهيه نفوسهم" [التفسير]
وعن أنس بن مالك قال: "سئل رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- ما الكوثَر؟ قالَ: (ذاك نهر أعطانيه اللّه -يعني في الجنّة- أشدّ بياضا من اللّبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر)، قال عمر: إنّ هذه لناعمة، فقال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: (أكَلَتُها أنعَمُ مِنها)". [الترمذي]
ولأهل الجنة الفواكه بأشكالها وألوانها، ما سمع البشر عنه وما لم يسمعوا، قال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها}، أي: يشبه الشكل الشكل، ولكن الطعم غير الطعم، وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال: (فإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها مثل قلال هجر)" [التفسير]، وقال تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}، ذكر السيوطي في تفسيره عن مجاهد قال: “يعني الموز المتراكم".
وفي الجنة لا قلق يعتري العباد خوفا من انتهاء هذه الفواكه أو انقضاء موسمها أو التضرر منها، كما هو حال فاكهة الدنيا، فقد جاء في تفسير الإمام البغوي: "{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ}: اشتهوها، {آمِنِينَ}: من نفادها ومن مضرتها"، وأما كيف يكون بعد الطعام فقد ذكرت الآثار أنهم يعرقون ويرشحون مسكا، فيذهب الله عز وجل ما في بطونهم من أذى، ولا شك أن الجنة لا وجود فيها لأي نوع من أنواع الأذى أو الضرر أو القبائح التي تمتلئ بها الدنيا الدنية.
الشراب الطهور
وأما شراب أهل الجنة فهو شراب طهور لا ينجس أبدا، كما قال الله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان]، قال ابن جرير: "قوله: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) يقول تعالى ذكره: وسقى هؤلاء الأبرار ربُّهُم شرابا طهورا، ومن طهره أنه لا يصير بولا نجسا، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك، وذكر عن إبراهيم التيمي (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) قال: عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك" [التفسير] وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ الرّجل من أهل الجنّة يعطى قوّة مئة رجل في الأكل والشّرب والشّهوة والجماع، فقال رجل من اليهود: فإنّ الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة؟ قال: فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده، فإذا بطنه قد ضمر) [رواه أحمد]
خمر الجنة
وبعد أكلهم ما يشتهون من اللحوم، يتناولون كأس الخمر بكامل لذتها وسعادة تعاطيها إلا أنها بغير سكر ولا زوال عقل، قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور]، قال ابن كثير: "قوله: {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} أي: وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى، مما يستطاب ويشتهى، وقوله: {يتنازعون فيها كأسا} أي: يتعاطون فيها كأسا من الخمر، قاله الضحاك، {لا لغو فيها ولا تأثيم} أي: لا يتكلمون عنها بكلام لاغ أي: هذيان ولا إثم أي: فحش، كما تتكلم به الشربة من أهل الدنيا، وقال ابن عباس: اللغو: الباطل، والتأثيم: الكذب، وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون، وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان، فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها -كما تقدم- صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال: {بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}" [التفسير].
وقال الله تعالى أيضا: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين]، قال البغوي: "{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ}: خمر صافية طيبة، قال مقاتل: الخمر البيضاء، {مَخْتُوم} ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار، وقال مجاهد: "مختوم" أي مطين، {خِتَامُه} أي: طينه {مِسْكٌ} كأنه ذهب إلى هذا المعنى، قال ابن زيد: ختامه عند الله مسك، وختام خمر الدنيا طين، وقال ابن مسعود: "مختوم" أي ممزوج ختامه أي: آخر طعمه" [التفسير]
وقال الله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان]، قال ابن كثير: "قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج، فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.. وذكر عن ابن عباس قوله: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة، رواه ابن أبي حاتم، وقوله: {قدروها تقديرا} أي: على قدر ريّهم، لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي معدة لذلك، مقدرة بحسب ري صاحبها، قال: وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة، وقوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} أي: ويسقون -يعني الأبرار أيضا- في هذه الأكواب خمرا، {كان مزاجها زنجبيلا} فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور، وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا، كما قاله قتادة وغير واحد، وقد تقدم قوله: {عينا يشرب بها عباد الله} وقال هاهنا: {عينا فيها تسمى سلسبيلا} أي: الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا" [التفسير].
وهذا وإن فواكه الجنة وشرابها كثير من أصناف عديدة لا نعرف منها إلا اسمها، وقد ادخر الله لأهل الجنة صنوفا من النعيم المقيم ليس لأحد إلا لأهل الجنة، قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص]، قال ابن كثير: "وقوله: {متكئين فيها} قيل: متربعين فيها على سرر تحت الحجال {يدعون فيها بفاكهة كثيرة} أي: مهما طلبوا وجدوا وحضر كما أرادوا، {وشراب} أي: من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}".
ويشربون من أنهار الماء الصافي واللبن والخمر والعسل كل حين، فهذه هي أنهار الجنة الجارية.
وهكذا ينعم أهل الجنة لا يبأسون، يعيشون عيش النعيم في دار النعيم، ويُنادَون وهم في نعيمهم: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان]، فكن ساعيا إلى هذا الخير العظيم والجزاء الكبير.
اللهم أدخلنا الجنة واجعلها دارنا وقرارنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد (379)
الخميس 3 شعبان 1444 هـ
التفريغ من إعداد : موقع إعلام.