السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسمِ الله الرحمـن الرحيـم
،،
افتتاحية صحيفة النبأ - العدد (383)
الخميس 1 رمضان 1444 هـ
***
" رمضان بين الماضي والحاضر "
لقد كان رمضان شهرا لأحداث مفصلية مشرقة في تاريخ أمة الإسلام البعيد والقريب، بدءًا بموقعة (بدر) أول معركة فاصلة في تاريخ المسلمين، ثم (فتح مكة) مهبط الوحي ومهوى أفئدة المؤمنين، مرورا بـ(عين جالوت) و(شقحب)، وليس انتهاءً بإعلان الخلافة مجددا على منهاج النبوة، حيث أحال رجال الإسلام عبر العصور نصوص الوحيين الشريفين أعمالا بنوا منها مجدا لأمتهم ما زالت آثاره حتى اليوم شاهدة عليه.
فالمُلاحظ من هذه التواريخ الوضّاءة أنّ شهر رمضان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وأتباعهم، كان شهر عمل وتطبيق لا شعارات أو تنظير، ولذلك كانت نتائجه كبيرة على صعيد الانتصار على أعداء الإسلام، وأيضا الانتصار على النفس والشهوات.
لأجل ذلك، ينبغي للمسلمين معرفة كيف كانت سيرة نبيّهم -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر المبارك، لكي يتأسوا ويقتدوا به ويسيروا على منهاجه قولا وعملا ودعوة وعبادة وجهادا، فلم تكن غزوة بدر الكبرى وفتح مكة بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر الجهاد، أحداثا عابرة ماتت في وقتها، بل هي سيرة عملية ممتدة إلى قيام الساعة، أمر الله تعالى المسلمين أن يقتدوا بها في قوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب]، قال القرطبي: "الأسوة: القدوة، والأسوة ما يتأسى به، أي يُتعزّى به، فيُقتدى به في جميع أفعاله، ويتعزى به في جميع أحواله، فلقد شُجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وقُتل عمه حمزة، وجاع بطنُه، ولم يُلفَ إلا صابرا محتسبا، وشاكرا راضيا" [التفسير].
وإلى جانب جهاده العسكري في رمضان، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبذل جهده في التقرب إلى الله تعالى بشتى القربات من الإنفاق والتلاوة والقيام، كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: "كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
في حين أن دعاة الضلالة اليوم الذين تمتلئ بهم المنابر والقنوات، عاكفون على إخراج جيل يعيش ويموت على الشعارات دون أن يحدّث نفسه بالغزو أو العمل، ولذلك تراهم يحدّثون الناس عن غزوات رمضان كأنها قصص تاريخية موسمية تُروى لتطوى، دون أي تحريض على إعادة أمجادها وتكرارها في حياة المسلمين، بل إنّ من يسعى اليوم ليعيد هذه الغزوات والفتوحات واقعًا في حياة المسلمين، يُجرَّم ويُحارب ويُقتل ويُؤسر ويرمى بأشنع الأوصاف وأبشع الألقاب مِن على نفس هذه المنابر!
ولذا، فالناس اليوم ليسوا بحاجة لأكوام من دعاة جهنم يسردون الأحكام مجرّدة من التطبيق، ويقصّون قصص الفتوحات الرمضانية حبرا على ورق! أو شحنات عاطفية لا تلبث أن تنقضي وتختفي، بل يحتاجون قدوات عملية تسبقهم إلى ميدان العمل، كما كان حال دعاة المسلمين الصادعين بالحق الذين يأمرون الناس بالبر ويسبقونهم إليه.
وتأمل حال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- العالم الفقيه المؤرخ، كيف صدّق أقواله بأفعاله، فلم يحدّث الناس عن وجوب جهاد التتار ثم جلس بعيدا عن أرض المعركة، بل طلب وهو يرى جموعهم كالسيل الهادر؛ أن يقف موقف الموت في مواجهتهم، ثم نزل بعلمه على أرض الميدان بين إخوانه المجاهدين، يعلّمهم فقه الجهاد، كما نقل عنه تلميذه ابن كثير في "البداية والنهاية" فكان الشيخ قدوة عملية للمسلمين بعلمه وعمله في ميدان الواقع، فأين المتمسّحون بتراث شيخ الإسلام اليوم؟ فإن لم يحذوا حذوه وينزلوا للميدان بعلمهم، فليكفوا ألسنتهم عمّن سار مسيره وحسب!
لقد كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وسائر القرون المفضلة في رمضان الجمع بين محاريب العبادة والجهاد، فكانوا رهبانا في الليل وفرسانا في النهار، ولذلك فإن أقرب الناس إلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان وغير رمضان، وأصدقهم حالا ومقالا -نحسبهم كذلك- هم المجاهدون في سبيل الله تعالى، الذين حملوا القرآن فقاموا به ليلا، وصبّحوا الكافرين به نهارا، فجمعوا بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..} فصاموا، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ…} فقاتلوا؛ ولم يركنوا أو يتحججوا، حتى صار رمضان شهر رعب وقلق عند حكومات الكفر والردة، فما إنْ يدخل الشهر إلا وترى جيوش الطواغيت في كل صِقْع مستنفرين متأهبين، خشية الغزوات والغارات التي يشنّها المجاهدون عليهم في رمضان، وهذا كله من ثمار التطبيق العملي لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- دون الوقوف عند حدود الشعارات والتنظير.
ورغم أن شياطين الجنّ تُصفد في رمضان رحمة من الله بعباده وتسهيلا لسبل الطاعة عليهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دخل رمضانُ فتحتْ أبوابُ الجنة، وغلّقتْ أبوابُ جهنم، وسُلسلت الشياطين) [متفق عليه]؛ إلا أن شياطين الإنس يعملون على النقيض تماما، فيحاولون تعويض ما فات إخوانهم شياطين الجنّ من إفساد الناس وتسهيل دروب الغواية وتزيينها في أعينهم! فإذا دخل رمضان نادى منادوهم: يا باغي الشر أقبل!! حتى بات الشهر الكريم ميدانا يتنافس فيه هؤلاء المفسدون في نشر سبل الغواية والضلال، ليحملوا أوزارهم وأوزار مَن يضلون ويفسدون، وكل ذلك بخطط مُعدّة سلفا ومدعومة من نفس الحكومات والأنظمة الجاهلية التي تسمح لدعاة الضلالة باعتلاء المنابر والشاشات، فهم يتقاسمون الدور الخبيث المنوط بهم، فدعاة الضلالة يفسدون العقائد، ودعاة الغواية يفسدون الأخلاق وكلهم ينشط في رمضان.
وتذكيرا بما تقدّم، فإن الرجال الذين صنعوا أحداث تاريخ أمة الإسلام، إنما حققوا ذلك بالعمل والتطبيق لا التمني، ونجحوا في ذلك بعد الانتصار على أنفسهم وعلى عدوهم، وكان قصدهم وغايتهم من ذلك تحقيق العبودية لله تعالى ونيل رضوانه، ونحسبهم قد ظفروا بما أرادوا والله حسيبهم، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، فلا بد من السير على ما ساروا عليه والتمسك بما تمسكوا به، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والعودة إلى محاريب الجهاد والإخبات، ليعود لأمة الإسلام تاريخها ومجدها، ولينصرن الله من ينصره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفريغ من إعداد: موقع إعلام.