النعيم المقيم (1) -التشويق للجنة-
الحمد لله الذي جعل الجنة أجرا للعاملين ودارا للمتقين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجّلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن رمُتَ حديثا شيّقا يأسر القلوب قبل الأسماع ويأخذ بالألباب قبل العيون فإنه الحديث عن دار الغرام، إنها منتهى السعادة وعنوانها، هي أمل الصالحين، ولا يدخلها إلا الفائزون، إنها مقعد الصدق ودار السلام والحُسنى والنعيم المقيم، التي لا كدر فيها ولا نهاية ولا نقص، أتدري ما مُلْكها وما فيها؟! إنّ ملكها كبير وخدمها كثير وجمال حورها مُبهِرٌ مُثير، حصباؤها اللؤلؤ وترابها المسك وأغصان شجرها الذهب، وفرشها أرائك عالية، فواكهها كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، خازنها رضوان، وبانيها الرحمن، وما عسى يبني الرحمن إلا ما يُذهل الأذهان، وحسبك.
إنّ ذكْر الجنة يهوّن على رهبان الليل طول القيام ويُجري عيونهم بدموع الخشية والإخبات، ويروي ظمأ الصائمين، ويهيّج المجاهدين إلى سكب الدماء الطاهرة وإلقاء الأجساد الطيبة في المعامع والحتوف لتطير الأرواح إلى بلاد الأفراح.
ويكفي في ذكْر الجنة أنه يرفّع القلوب عن الدنيا ودناياها، ويحثّ الخطا نحو العُلى ليشمّر المؤمن وينتصر على نفسه وكسلها وتوانيها وتسويفها، فتراه نحلة في بستان العبادات، يصعد على سُحب الصعود بهمة لمهام الدين، وصبر على اللأواء بيقين، ولأهل الجهاد خصيصة التذكير فهم الخُطّاب للحور وهم العاقدون تجارة لن تبور.
وسنشرع في سلسلة "النعيم المقيم" لنتشوّق ونشوّق المؤمنين إلى الجنة بذكْر أخبارها والتعرف على أبوابها ودورها وصفة أهلها فيها وطعامها وحُللها وغيره إن شاء الله تعالى.
استبقوا.. سابقوا.. سارعوا
لقد شوَّقَ الله تعالى عباده للجنة بأساليب عديدة، منها حثّهم على المسارعة والمسابقة والمنافسة على الأعمال المفضية إليها، فقال الله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين]
إذن فالجنة تُنال بالمسارعة والمبادرة إلى الخيرات والطاعات، تُنال بالتنافس والتعب لا بالدعة وراحة الجسد، وقد ناداهم الله بالمسارعة والمسابقة لسُمُو المقام وقِصَر الأيام، لأن التباطؤ مَزَّلة وعرضة للفوات، ومن خاف العقاب وطلب الثواب أسرع وسابق، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) [الترمذي]، قال المنذري: "وَمعنى الحَدِيث: أَنّ مَن خَافَ ألزمهُ الْخَوْف إِلَى السلوك إِلَى الْآخِرَة، والمبادرة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، خوفًا من القواطع والعوائق" [الترغيب والترهيب]
وفي ذلك قال ابن القيم:
يا خاطب الحور الحسان وطالبًا لوصالهنّ بجـنة الحيوان لو كنتَ تدري مَن خطبت ومَن طلبت بذلت ما تحوي مِن الأثمان أو كنتَ تدري أين مسكنها جعلت السعي منكَ لها على الأجفان ولقد وصفت طريق مسكنها فإن رُمتَ الوصال فلا تكنْ بالواني أسرِع وحثّ السير جهدك إنما مسراك هذا ساعة لزمان
الفوز العظيم
كما شوّقَ اللهُ عباده إلى الجنة؛ بجعلها الفوز والظفر الحقيقي، فكل نفس أبية تطمع وتطمح للفوز والفلاح، وكل عامل يُحب أن يُجازى على عمله خيرا، ويرجو في السباق أن يكون فائزا، والعاقل من شعر أنه على سباق في الدنيا فعمل للفوز، وقد أخبرنا القرآن مَن هو الفائز، فقال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب]
وسمّى الله الجنة فوزا عظيما في كثير من آيات القرآن منها قوله عز وجل في حق الشهداء الذين يُقتلون في سبيله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، غير أنه زادهم هنا بتأكيد فوزهم بمؤكّدات فقال تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ}، ثم بشّرهم فقال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، ثم أكّد الفوز مرة أخرى فقال: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وكل ذلك تشريفا لمقام الشهداء المجاهدين في سبيل الله، فطوبى لمن فاز وبُشرى لمن حاز.
وذكر الله فوزا كبيرا لمن قتل فداءً لهذا الدين وثبت عليه ولم يرَ بعينه نصرا، وهم أصحاب الأخدود ومن على شاكلتهم رحمهم الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج]، فالجنة فوز عظيم وكبير، وهذه حجة على أهل الدنيا الذين لا يرون فوزا إلا بنيل حطامها الزائل، وقالوا فيمن يُقتل في سبيل الله: "ماذا استفادوا" وأي فائدة أعظم من الفوز الكبير بالنعيم المقيم الذي لا ينقضي ولا ينقطع؟
حسن الثواب
ومِن التشويق للجنة ما يذكره الله أنّ الجنة أحسن ما يُثاب عليه المؤمنون الذين هاجروا وجاهدوا ولقوا أنواع الأذى في سبيل الله ثم ختموا حياتهم بالقتال والقتل في سبيل الله، فقال سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. [آل عمران]
فكم مِن قاعد محروم من هذا الثواب وهذا الوعد الإلهي؟! ما وجد في دينه عناء ولا أذى ولا شدة ولا جوعا في ذات الله، فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا!!
خيرٌ وأبقى
ومما يشوّق للجنة أنْ يعلم المؤمن أنها هي الباقية وأن الدنيا بكل ما فيها فانية زائلة، قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى]، قال ابن كثير: "أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دنية فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبا، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!" [التفسير].
ويحكي لنا القرآن كيف حفّز الله نفرًا من المسلمين في بداية الإسلام لما فُرض عليهم الجهاد؛ "جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا"، وفي ذلك قال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، فكان العلاج الإلهي لهذه الحالة هو بيان حقيقة الدنيا ومتاعها الزائل مقارنة بنعيم الآخرة المقيم، فقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء]، قال ابن كثير: "أي: آخرة المُتقي خير من دنياه. ولا تُظلمون فتيلا من أعمالكم، بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد".
ومثل ذلك قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة]، قال الطبري: "أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه؟، (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة)، أي: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته؛ إلا يسير".
مواطن الجنة
والمشتاق إلى الجنة يقصدها في مواطنها، ويأتي راغبًا بها حريصا عليها، ومِن مواطن الجنة الجهاد في سبيل الله تعالى، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال بحضرة العدو: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)، فقال رجل من القوم رثّ الهيئة: أأنت سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكره؟ قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، وكسر جفن سيفه فضرب به حتى قُتل".
ومواطن الجنة كثيرة معروفة لمن طلبها، ولها رياض في الدنيا احرص على أن لا تفوتك أخي المسلم، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال حِلَق الذِّكر). [الترمذي]
ومِن أهم مواطن الجنة مخالفة هوى النفس، وهذا لا يتفطّن له إلا القليل، لقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات) [مسلم]، فمن خالف نفسه هواها، وألزمها سبيل ربها وهدي نبيّها؛ وحملها على ما تكره، فقد سلك طريق الجنة بإذن الله تعالى.
أين المشمرون؟
وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- تشجيع أصحابه لنيل الجنة ودعوتهم للتشمير لها، حتى في أحلك الظروف كما في غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها على المسلمين أشد أنواع البلاء من الخوف والجوع والحصار والبرد وغيرها، وهنا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: (أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟) [مسلم]، يعني من يأتينا بخبر العدو ويكون رفيقي في الجنة، فقام لها حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-.
ومن ذلك ما رواه أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم لأصحابه: (ألا مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبدا، في حبرة ونضرة، في دار عالية سليمة بهية، قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله) ثم ذكر الجهاد وحضّ عليه. [ابن ماجة]
وبعد أخي المسلم.. فمهما توسّعَ المتوسعون وأطْنَب المطنبون في وصف الجنة وتخيُّل ما فيها، فلن يدركوا ما فيها من النعيم الذي وصفه الله تعالى في الحديث القدسي على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). [متفق عليه]، فهذه هي الجنة لا سبيل لإدراك نعيمها إلا بالتشمير لنيلها ودخولها، فأين المشمرون؟!
اللهم ارزقنا الفردوس الأعلى من الجنة ووفقنا لعمل أهل الجنة وأدخلنا الجنة مع الأبرار، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد (374) الخميس 26 جمادى الآخرة 1444 هـ
التفريغ من إعداد : موقع إعلام
|