بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللهُ بِقَوۡمِِ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤئِمِِ، ذَلِكَ فَضۡلُ ٱللهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ (54) إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَاكِعُونَ (55) وَمَن یَتَوَلَّ ٱللهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ (56)﴾
[المائدة 54-56]
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَأَشَدُّ مَنْعَةً وَأَقْوَمُ سَبِيلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٣٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ [النِّسَاءِ:١٣٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾
[إِبْرَاهِيمَ:١٩، ٢٠] أَيْ: بِمُمْتَنَعٍ وَلَا صَعْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ أَيْ: يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي الْوُلَاةِ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ.
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ هُمْ أَهْلُ الْقَادِسِيَّةِ. وَقَالَ لَيْث بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ سَبَأٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْأَجْلَحِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ مِنْ كِنْدَة، ثُمَّ مِنَ السَّكُون.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -يَعْنِي ابْنَ حَفْصٍ-عَنْ أَبِي زِيَادٍ الْحِلْفَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سُئل رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالَ: "هَؤُلَاءِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ، ثُمَّ مِنَ السكون، ثم من تُجِيبَ". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّة، حدثنا عَبْدُ الصَّمَدِ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَارِثِ-حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاك، سَمِعْتُ عِيَاضًا يُحَدِّثُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : "هُمْ قَوْمُ هَذَا". وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِنَحْوِهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الكُمَّل أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَوَاضِعًا لِأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ، مُتَعَزِّزًا عَلَى خَصْمِهِ وَعَدُوِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الْفَتْحِ: ٢٩] . وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَنَّهُ: "الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ" فَهُوَ ضَحُوكٌ لِأَوْلِيَائِهِ قَتَّالٌ لِأَعْدَائِهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ أَيْ: لَا يَرَدُّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَحِيكُ فِيهِمْ لَوْمُ لَائِمٍ وَلَا عَذَلُ عَاذِلٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا سَلَامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ بِسَبْعٍ، أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَلَّا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنَّ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى؛ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: بَايَعَنِي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ خَمْسًا وَوَاثَقَنِي سَبْعًا، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيَّ تِسْعًا، أَنِّي لَا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ لَكَ إِلَى بَيْعَةٍ وَلَكَ الْجَنَّةُ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَبَسَطْتُ يَدَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ وَهُوَ يَشْتَرِطُ: عَلَي أَلَّا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: "ولا سَوْطَكَ وإن سَقَطَ مِنْكَ، يَعْنِي : تَنْزِلُ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُهُ."
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنِ الْمُعَلَّى القُرْدوسي، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ: "أَلَّا لَا يَمْنَعْنَ أَحَدَكُمْ رَهْبةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجْلٍ، وَلَا يُبَاعد مَنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ
أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زُبَيْد عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : "لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلهِ فِيهِ مَقَال، فَلَا يَقُولُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ قُلْتَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: مَخَافَةَ النَّاسِ. فَيَقُولُ: إِيَّايَ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرو بْنِ مُرَّةَ بِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي طُوَالة عَنْ نَهَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيِّ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إن اللهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْأَلُهُ يَقُولُ لَهُ: أيْ عَبْدِي، رَأَيْتَ مُنْكَرًا فَلَمْ تُنْكِرْهُ؟ فَإِذَا لَقَّن اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ، قَالَ: أيْ رَبِّ، وَثِقْتُ بِكَ وَخِفْتُ النَّاسَ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "مَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "يَتَحَمَّلُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ".
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: وَاسْعُ الْفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِمَّنْ يَحْرمه إِيَّاهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: لَيْسَ الْيَهُودُ بِأَوْلِيَائِكُمْ، بَلْ وِلَايَتُكُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى الله وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَمُسَاعَدَةٌ لِلْمُحْتَاجِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أَيْ: فِي حَالِ رُكُوعِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَذَلِكَ، لَكَانَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْدُوحٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ نَعْلَمُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي هَذَا أَثَرًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ فِي حَالِ رُكُوعِهِ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْد، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْن أَبُو نُعَيْمٍ الْأَحْوَلُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ قَيْسٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، تَصَّدَق وَهُوَ رَاكِعٌ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويه، مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنان، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَائِمًا يُصَلِّي، فَمَرَّ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ الْآيَةَ.
الضَّحَّاكُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدُويه أَيْضًا عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ -وَهُوَ مَتْرُوكٌ-عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، بَيْنَ رَاكِعٍ وَسَاجِدٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وَإِذَا مِسْكِينٌ يَسْأَلُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ: "أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "مَنْ؟ " قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ الْقَائِمُ. قَالَ: "عَلَى أَيِّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ؟ " قَالَ: وَهُوَ رَاكِعٌ، قَالَ: "وَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ". قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾
وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَردُويَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَفْسِهِ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأَبِي رَافِعٍ. وَلَيْسَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا. ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ، عَنْ مَيْمُونُ بْنُ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ : ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ قُلْنَا: مَنِ الَّذِينَ آمَنُوا؟ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا! قُلْنَا: بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ! قَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ تَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حِينَ تَبَرَّأَ مِنْ حلْف يَهُود، وَرَضِيَ بِوَلَايَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ(1)؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١، ٢٢] .
فَكُلُّ مَنْ رَضِيَ بِوِلَايَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْصُورٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
-------------------------------
من تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - يقول الطبري في تفسيره عن سبب نزول هذه الآية :
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج= فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نزلت:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"= لقول عُبادةَ:"أتولى الله ورسوله والذين آمنوا"، وتبرئه من بني قينقاع ووَلايتهم= إلى قوله:"فإن حزب الله هم الغالبون"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ