المنارة
المنارة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


مشكاة هداية ونور في دياجير الظلام
 
الرئيسيةس .و .جالتسجيلدخول

 

 " حاسبوا أنفسكم "

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مسلمة

مسلمة


تاريخ التسجيل : 15/06/2021

" حاسبوا أنفسكم " Empty
مُساهمةموضوع: " حاسبوا أنفسكم "   " حاسبوا أنفسكم " I_icon_minitimeالجمعة فبراير 03, 2023 3:51 pm

بسـم الله الرحمـن الرحيـم
***


" حاسبوا أنفسكم "


جُبلت نفوس بني آدم على حب الشهوات، فهي -بطبيعة خلقها- تنجذب إليها وتنساق وراءها، إلا أن بعض من أراد الله تعالى بهم خيرا، وفقهم للسيطرة على شهوات نفوسهم، فلا يرخون لها العنان لتسرح في مهالكها، بل يلجمونها بالصبر ويتعاهدونها بالمحاسبة، ويتفاوت الناس في هذه المحاسبة، فمنهم من يراجع نفسه ويحاسبها فينجو، ومنهم من لا يلقي لها بالا فيهلك، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل الناس يغدو فبائع نفسه؛ فمعتقها، أو موبقها) [رواه مسلم]، ونسلط الضوء في هذا المقال على هذا الخُلق الإيماني، النابع من خوف الله تعالى ورجائه، إن شاء الله تعالى.




المحاسبة


ولقد حثّ الله تعالى المؤمنين في كتابه الكريم على محاسبة نفوسهم، والتفكّر فيما قدمت من عَمَل قبل العرض عليه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر]، قال ابن كثير: "وقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد..} أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعَرْضكم على ربّكم، {واتقوا الله..} تأكيدٌ ثانٍ، {إن الله خبير بما تعملون} أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير" [التفسير]


فالنفس إن لم يتعاهدها المؤمن بالمحاسبة ويشدد عليها بالمراقبة سيهون عليها ارتكاب المعاصي ويصعب عليها تركها حين تدمنها، قال ابن القيم: "وأضرّ ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويُمشِّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحميةَ أسهلُ من الفطام وتركِ المألوف والمعتاد" [إغاثة اللهفان]


ومحاسبة النفس علامة على صلاح القلب ودليل على اتقاد جذوة الإيمان فيه، كما أن تركها وما تريد من الشهوات دليل على فساد القلب وضعف الإيمان فيه، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن المؤمنَ -واللهِ- ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه" [مدارج السالكين]


فمن أراد النجاة يوم الحساب، حاسب نفسه في هذه الدنيا، أما من اتبع هواه وترك نفسه على هواها فلا ينتظر غير حسرات دائمة وندم شديد، يوم لا ينفعه الندم شيئا، قال ابن قدامة: "وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خفّ في القيامة حسابه، وحسن منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته" [مختصر منهاج القاصدين].




السلف ومحاسبة النفس


وكان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم ويحثون على محاسبتها، قال ابن القيم: "قال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك»، وقال ميمون بن مهران أيضا: «إن التقيّ أشد محاسبة لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح..» وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: «حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة»، وقال الحسن: «المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لَمِن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرطُ منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قومٌ أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله»، وقال مالك بن دينار: «رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا»" [إغاثة اللهفان بتصرف]


وقد قال صاحب الإمام البخاري -رحمه الله- عنه: "رأيتُهُ استلقى ونحنُ بـ(فربر) في تصنيفِ كتابِ التفسير، وكان أتعبَ نفسَه في ذلك اليوم في التخريج، فقلتُ له: إني سمعتُك تقول: ما أتيتُ شيئًا بغير علمٍ، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبتُ نفسي اليومَ، وهذا ثغرٌ خشيتُ أن يحدثَ حدثٌ مِنْ أمر العدو، فأحببتُ أن أستريحَ وآخذَ أُهبة، فإنْ غافصَنا (هاجمنا فجأة) العدوُّ كان بنا حِراك" [فتح الباري]؛ فتأمل مراقبة هذا الإمام الجليل لنفسه، حيث لم يجعل طلبه للعلم يستغرق كل جهده، بل أبقى لنفسه قوة لمجاهدة الكفار بالسيف، ومثل هذا عن السلف كثير جدا.




قبل العمل وبعده


وينبغي للمؤمن أن يحاسب نفسه قبل أن يقدم على العمل، فإن كان صالحا تفقد نيته، فإنما الأعمال بالنيات، فإن رآه لله مضى فيه، وإن وجد في نفسه أنه يُقدِم على العمل لغير الله وكان في نيّتِه رياء أو سمعة وما شابه صحّح نيّته، وإن كان العمل معصية أخذ بلجام نفسه ونهاها، وتذكّر أن الله مطلع عليه، يراه ويسمعه، ويعلم حاله، لا يخفى عليه شيء من أمره، وإن كان العمل فيه شبهة حرام تركه كذلك، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الحلالَ بيّن، والحرامَ بيّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقَع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقعَ فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمُه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسدَ الجسد كله، ألا وهي القلب) [متفق عليه]، أما إن تورّط بمعصية، فعليه بمحاسبة نفسه على اقترافها، وذلك بالندم عليها والخوف منها، والعزم على عدم العودة إليها، وكثرة استغفار الله تعالى بعدها، وعمل الصالحات مقابلها، لعل الله تعالى أن يغفر له ويتجاوز عنه، قال ابن القيم عن محاسبة النفس على العمل: "وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح. ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا؟ ولم فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟ ويعلم أنه لا بد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لم فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة". [إغاثة اللهفان]




مما يعين على المحاسبة


وما يعين المؤمن على محاسبة نفسه أن يستشعر مراقبة الله تعالى له، واطلاعه على جميع أحواله، فإن استشعر هذا استحى من الله أن يعصيه، فيعبد المؤمنُ ربّه سبحانه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى مطلع عليه ويرى عمله، ومن ذلك أيضا أن يعلم أن كل عمل يعمله هو مكتوب عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف] فإن علم ذلك واستشعره داوم على حساب نفسه وأطرها على الطاعة ومنعها أن ترتع فيما فيه هلاكها، وأن يدرك أيضا أن عن يمينه وشماله مَلَكيْن، يكتبان ما يفعل، قال سبحانه: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق] قال ابن كثير: "يعني: الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي: مترصِّد" [التفسير]، فإن علم ذلك بادر لمحاسبة نفسه قبل أن يحاسبه الله تعالى يوم العرض عليه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}" [الزهد لابن المبارك]


قال ابن القيم: "ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا، ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها؛ دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم، فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه؛ خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا} [آل عمران]" [إغاثة اللهفان]


ومما يعين العبد على محاسبة نفسه؛ زيارة القبور، فإنها تذكر الإنسان بمصيره وتهوّن الدنيا في عينه، وتدعوه أن يتأمل في أحوال الذين انقطعت أعمالهم عن الدنيا وهم يتمنّون أن يعودوا ليعملوا صالحا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ) [مسلم]، ومن تذكر الموت حاسب نفسه وعمل لما بعده، ومما يعين على المحاسبة كذلك؛ ترك مجالسة السفهاء وأهل الأهواء والمعاصي والبدع وصحبة الأخيار الصالحين، فإن الصاحب ساحب، والمرء على دين خليله.


نسأل الله الكريم أن يجنبنا شرور أنفسنا، وأن لا يكلنا إليها طرفة عين، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينجينا يوم الحساب، إنه قريب مجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد (376)
الخميس 11 رجب 1444 هـ


التفريغ من إعداد: موقع إعلام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
" حاسبوا أنفسكم "
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المنارة :: مكتبة المنارة :: قسم التزكية والرقائق-
انتقل الى: