قال الله تبارك وتعالى :﴿ فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ * فَرَوۡحٌ وَرَیۡحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِیم * وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ * فَسَلَـٰمٌ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ * وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِینَ ٱلضَّاۤلِّینَ * فَنُزُلٌ مِّنۡ حَمِیمٍ * وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡیَقِینِ * فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِیمِ ﴾
[ الواقعة : 88-96 ]
يقول ابن القيم رحمه الله :
* (فصل)
فلما قام الدليل ووضح السبيل وتم البرهان على أنهم مملوكون مربوبون مجزيون محاسبون ذكر طبقاتهم عند الحشر الأول والقيامة الصغرى وهي ثلاث طبقات طبقة المقربين، وطبقة أصحاب اليمين، وطبقة المكذبين فجعل تحية المقربين عند الوفاة الروح والريحان والجنة.
وهذه الكرامات الثلاثة التي يعطونها بعد الموت نظير الثلاث التي يعطونها يوم القيامة فالروح الفرح والسرور والإبتهاج ولذة الروح فهي كلمة جامعة لنعيم الروح ولذتها وذلك قوتها وغذاؤها والريحان الرزق وهو الأكل والشرب والجنة المسكن الجامع لذلك كله فيعطون هذه الثلاث في البرزخ وفي المعاد الثاني
ثم ذكر الطبقة الثانية وهي طبقة أصحاب اليمين ولما كانوا دون المقربين في المرتبة جعل تحيتهم عند القدوم عليه السلامة من الآفات والشرور التي تحصل للمكذبين الضالين فقال ﴿وَأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾
والسلام مصدر من سلم أي فلك السلامة والخطاب له نفسه. أي يقال لك السلامة، كما يقال للقادم لك الهناء ولك السلامة ولك البشرى ونحو ذلك من الألفاظ.
كما يقولون خير مقدم ونحو ذلك، فهذه تحية عند اللقاء.
قال مقاتل يسلم الله لهم أمرهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويتقبل حسناتهم.
وقال الكلبي يسلم عليه أهل الجنة ويقولون السلامة لك.
وعلى هذا فقوله ﴿مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ أي هذه التحية حاصلة لك من إخوانك أصحاب اليمين، فإنه إذا قدم عليهم حيوه بهذه التحية وقالوا السلامة لك.
وفي الآية أقوال أخر فيها تكلف وتعسف، فلا حاجة إلى ذكرها.
ثم ذكر الطبقة الثالثة وهي طبقة الضال في نفسه المكذب لأهل الحق وإن له عند الموافاة نزل الحميم وسكنى الجحيم ثم أكد هذا الجزاء بما جعله كأنه رأى العين لمن آمن بالله ورسوله فقال ﴿إنَّ هَذا لَهو حَقُّ اليَقِينِ﴾ فرفع شأنه عن درجة الظن والعلم إلى اليقين وعن درجة اليقين إلى حقه.
ثم أمره أن ينزه اسمه تبارك وتعالى عما لا يليق به وتنزيه الاسم متضمن لتنزيه المسمى عما يقوله الكاذبون والجاحدون.
* (فَصْلٌ)
المَرْتَبَةُ التّاسِعَةُ مِن مَراتِبِ الحَياةِ: حَياةُ الأرْواحِ بَعْدَ مُفارَقَتِها الأبْدانَ وخَلاصِها مِن هَذا السِّجْنِ وضِيقِهِ، فَإنَّ مِن ورائِهِ فَضاءً ورَوْحًا ورَيْحانًا وراحَةً، نِسْبَةُ هَذِهِ الدّارِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الأُمِّ إلى هَذِهِ الدّارِ، أوْ أدْنى مِن ذَلِكَ.
قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبادَرَتُكَ إلى الخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيا كَمُبادَرَتِكَ إلى الخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ الضَّيِّقِ إلى أحِبَّتِكَ، والِاجْتِماعِ بِهِمْ في البَساتِينِ المُونِقَةِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الحَياةِ: ﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٨].
وَيَكْفِي في طِيبِ هَذِهِ الحَياةِ: مُرافَقَةُ الرَّفِيقِ الأعْلى، ومُفارَقَةُ الرَّفِيقِ المُؤْذِي المُنَكِّدِ، الَّذِي تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ ومُشاهَدَتُهُ الحَياةَ، فَضْلًا عَنْ مُخالَطَتِهِ وعِشْرَتِهِ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، في جِوارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَدْ قُلْتُ إذْ مَدَحُوا الحَياةَ فَأسْرَفُوا ∗∗∗ في المَوْتِ ألْفُ فَضِيلَةٍ لا تُعْرَفُ
مِنها أمانُ لِقائِهِ بِلِقائِهِ ∗∗∗ وفِراقُ كُلِّ مُعاشِرٍ لا يُنْصِفُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في المَوْتِ مِنَ الخَيْرِ إلّا أنَّهُ بابُ الدُّخُولِ إلى هَذِهِ الحَياةِ، وجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنهُ إلَيْها: لَكَفى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ.
جَزى اللَّهُ عَنّا المَوْتَ خَيْرًا فَإنَّهُ ∗∗∗ أبَرُّ بِنا مِن كُلِّ بِرٍّ وألْطَفُ
يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الأذى ∗∗∗ ويُدْنِي إلى الدّارِ الَّتِي هي أشْرَفُ
فالِاجْتِهادُ في هَذا العُمْرِ القَصِيرِ، والمُدَّةِ القَلِيلَةِ، والسَّعْيِ والكَدْحِ، وتَحَمُّلِ الأثْقالِ، والتَّعَبِ والمَشَقَّةِ إنَّما هو لِهَذِهِ الحَياةِ، والعُلُومُ والأعْمالُ وسِيلَةٌ إلَيْها، وهي يَقَظَةٌ، وما قَبْلَها مِنَ الحَياةِ نَوْمٌ، وهي عَيْنٌ، وما قَبْلَها أثَرٌ، وهي حَياةٌ جامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ المَكْرُوهِ، وحُصُولِ المَحْبُوبِ في مَقامِ الأُنْسِ، وحَضْرَةِ القُدْسِ، حَيْثُ لا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، ولا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ؛ حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ والرّاحَةُ، والبَهْجَةُ والسُّرُورُ، حَيْثُ لا عِبارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِها؛ لِأنَّها في بَلَدٍ لا عَهْدَ لَنا بِهِ، ولا إلْفَ بَيْنَنا وبَيْنَ ساكِنِهِ، فالنَّفْسُ لِإلْفِها لِهَذا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمانًا طَوِيلًا تَكْرَهُ الِانْتِقالَ مِنهُ إلى ذَلِكَ البَلَدِ، وتَسْتَوْحِشُ إذا اسْتَشْعَرَتْ مُفارَقَتَهُ.
وَحُصُولُ العِلْمِ بِهَذِهِ الحَياةِ إنَّما وصَلَ إلَيْنا بِخَبَرٍ إلَهِيٍّ عَلى يَدِ أكْمَلِ الخَلْقِ وأعْلَمِهِمْ وأنْصَحِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فَقامَتْ شَواهِدُها في قُلُوبِ أهْلِ الإيمانِ، حَتّى صارَتْ لَهم بِمَنزِلَةِ العِيانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهم مِن هَذا الظِّلِّ الزّائِلِ، والخَيالِ المُضْمَحِلِّ، والعَيْشِ الفانِي المَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وأنْواعِ الغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الحَياةِ، وشَوْقًا إلى ذَلِكَ المَلَكُوتِ، ووَجْدًا بِهَذا السُّرُورِ، وطَرَبًا عَلى هَذا الحَدِّ، واشْتِياقًا لِهَذا النَّسِيمِ الوارِدِ مِن مَحَلِّ النَّعِيمِ المُقِيمِ.
وَلَعَمْرُ اللهِ إنَّ مَن سافَرَ إلى بَلَدِ العَدْلِ والخِصْبِ والأمْنِ والسُّرُورِ صَبَرَ في طَرِيقِهِ عَلى كُلِّ مَشَقَّةٍ وإعْوازٍ وجَدْبٍ، وفارَقَ المُتَخَلِّفِينَ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِمْ، وأجابَ المُنادِي إذا نادى بِهِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، وبَذَلَ نَفْسَهُ في الوُصُولِ بَذْلَ المُحِبِّ بِالرِّضا والسَّماحِ، وواصَلَ السَّيْرَ بِالغُدُوِّ والرَّواحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الوُصُولِ مَسْراهُ، وإنَّما يَحْمَدُ المُسافِرُ السُّرى عِنْدَ الصَّباحِ.
عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى ∗∗∗ وفي المَماتِ يَحْمَدُ القَوْمُ اللِّقا.
وَما هَذا واللَّهِ بِالصَّعْبِ ولا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذا العُمْرِ القَصِيرِ، الَّذِي هو بِالنِّسْبَةِ إلى تِلْكَ الدّارِ كَساعَةٍ مِن نَهارٍ ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾
[يونس: ٤٥]، ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٦]، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ﴾ [الروم: ٥٥]، ﴿قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ - قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٢-١١٤]
فَلَوْ أنَّ أحَدَنا يُجَرُّ عَلى وجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ والحِجارَةَ إلى هَذِهِ الحَياةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا ولا غَبْنًا في جَنْبِ ما يُوَقّاهُ.
فَواحَسْرَتاهُ عَلى بَصِيرَةٍ شاهَدَتْ هاتَيْنِ الحَياتَيْنِ عَلى ما هُما عَلَيْهِ، وعَلى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الأدْنى عَلى الأعْلى، وما ذاكَ إلّا بِتَوْفِيقِ مَن أزِمَّةُ الأُمُورِ بِيَدَيْهِ، ومِنهُ ابْتِداءُ كُلِّ شَيْءٍ وانْتِهاؤُهُ إلَيْهِ، أقْعَدَ نُفُوسَ مَن غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إلى هَذِهِ الدّارِ، وجَذَبَ قُلُوبَ مَن سَبَقَتْ لَهم مِنهُ الحُسْنى، وأقامَهم في الطَّرِيقِ، وسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الأخْطارِ، فَأضاعَ أُولَئِكَ مَراحِلَ أعْمارِهِمْ مَعَ المُتَخَلِّفِينَ وقَطَعَ هَؤُلاءِ مَراحِلَ أعْمارِهِمْ مَعَ السّائِرِينَ،وعُقِدَتِ الغَبَرَةُ وثارَ العَجاجُ، فَتَوارى عَنْهُ السّائِرُونَ والمُتَخَلِّفُونَ.
وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ العامِلُونَ، ويَخْسِرُ المُبْطِلُونَ.
وَمِن طِيبِ هَذِهِ الحَياةِ ولَذَّتِها: قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «ما مِن نَفْسٍ تَمُوتُ لَها عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّها أنْ تَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، وأنَّ لَها الدُّنْيا وما فِيها، إلّا الشَّهِيدُ، فَإنَّهُ يَتَمَنّى الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا، لِما يَرى مِن كَرامَةِ اللهِ لَهُ» يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرى.
وَسَمِعَ بَعْضُ العارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ:
إنَّما العَيْشُ في بَهِيمِيَّةِ اللَّ ∗∗∗ ذَةِ وهو ما يَقُولُهُ الفَلْسَفِيُّ
حُكْمُ كَأْسِ المَنُونِ أنْ يَتَساوى ∗∗∗ في حِساها البَلِيدُ والألْمَعِيُّ
وَيَصِيرُ الغَبِيُّ تَحْتَ ثَرى الأرْ ∗∗∗ ضِ كَما صارَ تَحْتَها اللَّوْذَعِيُّ
فَسَلِ الأرْضَ عَنْهُما إنْ أزالَ الشَّ ∗∗∗ كَّ والشُّبْهَةَ السُّؤالُ الجَلِيُّ
فَقالَ: قاتَلَهُ اللَّهُ، ما أشَدَّ مُعانَدَتَهُ لِلدِّينِ والعَقْلِ! هَذا نَفْسُ عَدُوِّ الفِطْرَةِ والشَّرِيعَةِ والعَقْلِ والإيمانِ والحِكْمَةِ، يا مِسْكِينُ أمِن أجْلِ أنَّ المَوْتَ تَساوى فِيهِ الصّالِحُ والطّالِحُ، والعالِمُ والجاهِلُ، وصارُوا جَمِيعًا تَحْتَ أطْباقِ الثَّرى، أيَجِبُ أنْ يَتَساوَوْا في العاقِبَةِ؟ أما تَساوى قَوْمٌ سافَرُوا مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ في الطَّرِيقِ؟ فَلَمّا بَلَغُوا القَصْدَ نَزَلَ كُلُّ واحِدٍ في مَكانٍ كانَ مُعَدًّا لَهُ، وتُلُقِّي بِغَيْرِ ما تُلُقِّيَ بِهِ رَفِيقُهُ في الطَّرِيقِ؟ أما لِكُلِّ قَوْمٍ دارٌ فَأُجْلِسَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ؟ وقُوبِلَ هَذا بِشَيْءٍ، وهَذا بِضِدِّهِ؟ أما قَدِمَ عَلى المَلِكِ مَن جاءَهُ بِما يُحِبُّهُ فَأكْرَمَهُ عَلَيْهِ، ومَن جاءَهُ بِما يُسْخِطُهُ فَعاقَبَهُ عَلَيْهِ؟ أما قَدِمَ رَكْبُ المَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضُهم في قُصُورِها وبَساتِينِها وأماكِنِها الفاضِلَةِ، ونَزَلَ قَوْمٌ عَلى قَوارِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الكِلابِ؟ أما قَدِمَ اثْنانِ مِن بَطْنِ الأُمِّ الواحِدَةِ، فَصارَ هَذا إلى المُلْكِ، وهَذا إلى الأسْرِ والعَناءِ؟
وَقَوْلُكَ " سَلِ الأرْضَ عَنْهُما " أما إنّا قَدْ سَألْناها، فَأخْبَرَتْنا أنَّها قَدْ ضَمَّتْ أجْسادَهم وجُثَثَهم وأوْصالَهُمْ، لا كُفْرَهم وإيمانَهُمْ، ولا أنْسابَهم وأحْسابَهُمْ، ولا حِلْمَهم وسَفَهَهُمْ، ولا طاعَتَهم ومَعْصِيَتَهُمْ، ولا يَقِينَهم وشَكَّهُمْ، ولا تَوْحِيدَهم وشِرْكَهُمْ، ولا جَوْرَهم وعَدْلَهُمْ، ولا عِلْمَهم وجَهْلَهُمْ، فَأخْبَرَتْنا عَنْ هَذِهِ الجُثَثِ البالِيَةِ والأبْدانِ المُتَلاشِيَةِ، والأوْصالِ المُتَمَزِّقَةِ، وقالَتْ هَذا خَبْرُ ما عِنْدِي.
وَأمّا خَبْرُ تِلْكَ الأرْواحِ وما صارَتْ إلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْها كُتُبَ رَبِّ العالَمِينَ، ورُسُلَهُ الصّادِقِينَ، وخُلَفاءَهُمُ الوارِثِينَ، سَلُوا القُرْآنَ فَعِنْدَهُ الخَبَرُ اليَقِينُ، وسَلُوا مَن جاءَ بِهِ فَهو بِذَلِكَ أعْرَفُ العارِفِينَ، وسَلُوا العِلْمَ والإيمانَ فَهُما الشّاهِدانِ المَقْبُولانِ، وسَلُوا العُقُولَ والفِطَرَ فَعِنْدَها حَقِيقَةُ الخَبَرِ ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهم ومَماتُهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١]
تَعالى اللَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ عَنْ هَذا الظَّنِّ والحُسْبانِ، الَّذِي لا يَلِيقُ إلّا بِأجْهَلِ الجاهِلِينَ.
ثُمَّ قالَ: النّاظِرُ في هَذا البابِ رَجُلانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إلى الأشْياءِ، ورَجُلٌ يَنْظُرُ في الأشْياءِ، فالأوَّلُ: يَحارُ فِيها، فَإنَّ صُوَرَها وأشْكالَها وتَخاطِيطَها تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وحِسَّهُ، وتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إلَيْها بِعَيْنِ حِسِّهِ، لا يُفِيدُهُ مِنها ثَمَرَةَ الِاعْتِبارِ، ولا زُبْدَةَ الِاخْتِبارِ؛ لِأنَّهُ لَمّا فَقَدَ الِاعْتِبارَ أوَّلًا، فَإنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيارَ ثانِيًا.
وَأمّا النّاظِرُ في الأشْياءِ: فَإنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلى العُبُورِ مِن صُوَرِها إلى حَقائِقِها والمُرادِ بِها، وما اقْتَضى وُجُودُها مِنَ الحِكْمَةِ البالِغَةِ والعِلْمِ التّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَراتِبِها، ومَعْرِفَةَ نافِعِها مِن ضارِّها، وصَحِيحِها مِن سَقِيمِها، وباقِيها مِن فانِيها، وقِشْرِها مِن لُبِّها، ويُمَيِّزُ بَيْنَ الوَسِيلَةِ والغايَةِ، وبَيْنَ وسِيلَةِ الشَّيْءِ ووَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أنَّ الدُّنْيا قِشْرُهُ والآخِرَةَ لُبُّهُ، وأنَّ الدُّنْيا مَحَلُّ الزَّرْعِ، والآخِرَةَ وقْتُ الحَصادِ، وأنَّ الدُّنْيا مَعْبَرٌ ومَمَرٌّ، والآخِرَةَ دارُ مُسْتَقَرٍّ.
وَإذا عَرَفَ أنَّ الدُّنْيا طَرِيقٌ ومَمَرٌّ كانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزّادِ لِقَرارِهِ، ويَعْلَمُ حِينَئِذٍ أنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ في هَذِهِ الدّارِ لِلِاسْتِيطانِ والخُلُودِ، ولَكِنْ لِلْجَوازِ إلى مَكانٍ آخَرَ، هو المَنزِلُ والمُتَبَوَّأُ، وأنَّ الإنْسانَ دُعِيَ إلى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وعَلى لِسانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وبِكُلِّ إشارَةٍ ودَلِيلٍ، ونُصِبَ لَهُ عَلى ذَلِكَ عَلَمٌ، وضُرِبَ لِأجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، ونُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأتِهِ الأُولى ومَبادِئِهِ، وسائِرِ أحْوالِهِ، وأحْوالِ طَعامِهِ وشَرابِهِ، وأرْضِهِ وسَمائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وأُوْضِحَتْ لَهُ المَحَجَّةُ، وأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، وأُعْذِرَ إلَيْهِ غايَةَ الإعْذارِ، وأُمْهِلَ أتَمَّ الإمْهالِ، فاسْتَبانَ لِذِي العَقْلِ الصَّحِيحِ والفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أنَّ الظَّعْنَ عَنْ هَذا المَكانِ ضَرُورِيٌّ، والِانْتِقالَ عَنْهُ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ، وأنَّ لَهُ مَحَلًّا آخَرَ لَهُ قَدْ أُنْشِئَ ولِأجْلِهِ قَدْ خُلِقَ ولَهُ هُيِّئَ، فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ وقُدُومُهُ بِلا رَيْبٍ عَلَيْهِ، وأنَّ دارَهُ هَذِهِ مَنزِلُ عُبُورٍ، لا مَنزِلُ قَرارٍ.
وَبِالجُمْلَةِ: مَن نَظَرَ في المَوْجُوداتِ، ولَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْها وحْدَها: وجَدَها دالَّةً عَلى أنَّ وراءَ هَذِهِ الحَياةِ حَياةً أُخْرى أكْمَلَ مِنها، وأنَّ هَذِهِ الحَياةَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها كالمَنامِ بِالنِّسْبَةِ إلى اليَقَظَةِ، وكالظِّلِّ بِالنِّسْبَةِ إلى الشَّخْصِ، وسَمِعَها كُلَّها تُنادِي بِما نادى بِهِ رَبُّها وخالِقُها وفاطِرُها ﴿يا أيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللهِ الغَرُورُ﴾ [فاطر: ٥] وتُنادِي بِلِسانِ الحالِ، بِما نادى بِهِ رَبُّها بِصَرِيحِ المَقالِ ﴿واضْرِبْ لهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: ٤٥] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤] وقالَ تَعالى: ﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكم وتَكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٌ وما الحَياةُ الدُّنْيا إلّا مَتاعُ الغُرُورِ﴾ [الحديد: ٢٠] ثُمَّ نَدَبَهم إلى المُسابَقَةِ إلى الدّارِ الآخِرَةِ الباقِيَةِ الَّتِي لا زَوالَ لَها: فَقالَ ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: ٢١].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[ موقع الباحث القرآني ]