بسم الله الرحمـن الرحيـم ..
كواسر الجهاد (1) الانغماس
الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره، الذي قدّر الأيام دولا بعدله والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه، أما بعد:
لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الجهاد نشرا لدينه وإعلاء لكلمته وإرغاما لأعدائه، وأَذن للمسلمين بالقتال وبيّن أنه كره للنفوس ولكن كل الخير فيه، ولقد كان المسلمون قبل الإذن بالقتال، يعانون من أذى المشركين صابرين ينتظرون أمر الله حتى جاءهم قوله جل وعلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: ٣٩]
فشمّر الصادقون السابقون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سواعد التضحيات ورسموا أجمل صور البذل والفداء التي لم يَرَ مثلها التاريخ على مرِّ عصوره، فهم والله أبناء الحرب وأهل الحَلقَة، فأضرموا للحرب نارها وأذكوا بشجاعتهم أوارها، وما إن تناهى إلى أسماعهم قول ربهم جل في علاه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ٧٤] حتى شروا أنفسهم وأقاموا سوقا تتناثر فيه الأشلاء وتهراق فيه الدماء، ويعجز عن دخوله الجبناء، وتشتاق إليه أنفس الأبطال الأشداء، ولقد تفاضلوا فيما بينهم بعرض بضائعهم من الأجساد والأرواح يبتغون القتل مظانّه، سعيا لنيل الأجور ورضى الرب الغفور، يسعون للموت في ساحات القتال متيقنين أنه من خير معاش الناس لما حدّثهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو يحثهم ويحرضهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خير معاش الناس لهم؛ رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه) [مسلم]
"ويضحك إليهم ربُّك"
وكان الانغماس في العدو أسمى صورة تُجسِّد هذا التسابق لنيل فضل الشهادة في سبيل الله وأجرها، فلقد سطّروا أروع ما يعجز عنه الأبطال، ويتقزّم دونه الرجال، فكانوا كواسر الجهاد محطِّمَة الشرك مجندِلة العدا، دوّنوا بجهادهم في سبيل الله نوعا جديدا من فنون القتال، يتحرقون شوقا إلى تلك الأماكن التي ينالون بها الدرجات العلى بإذن الله، فقد أخبر نعيم بن همار، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الشهداء أفضل؟ قال: (الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه). [مسند أحمد]
فانظر أيها المؤمن لهذه المنزلة التي يضحك فيها ربُنا سبحانه من عبده، ألا يسرّك أن تُضحك ربك إرضاء له وطمعا في رحمته، وهو عمل يعجَب منه إلهنا جل جلاله فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجِبَ ربُّنا تبارك وتعالى من رَجُل غَزا في سبيل الله، فَانْهَزَمَ أصحابه فعلم ما عليه، فَرَجَعَ حتى أُهريق دَمُه، فيقول الله عزَّ وجلَّ لملائكته: انظروا إلى عبدي، رجع رَغْبَة فيما عندي، وشَفَقة مما عندي، حتى أُهريق دَمُهُ) [أبو داود]، وزاد رزين (أُشْهِدُكم أني غَفَرتُ لَه)، فهذا رجل انْهَزَمَ هو وأصحابه، لكنه ما طابت نفسه الاستمرار في الانهزام، فرجع.. نعم رجع وحده تاركا أصحابه فقاتل حتى قُتِل، فهو قد دخل "معركة خاسرة" في حسابات الناس بعدما ولّى أصحابه، لكنه دخل موقنا بالموت طالبا للشهادة فمدح الله فعله وباهى به ملائكته، فواعجبا من تلك الطموحات والآمال!
قال ابن النحاس: "ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس والله أعلم".
صحابةٌ انغمسوا في صفوف العدو
ولو نظرنا لجهاد الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا النماذج الكثيرة في الانغماس، ممن يدخل ليُقتل يقينا أو غالبا، يرجو ثواب الله، فهذا عمير بن الحمام أخذ بفؤاده قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، فقال بخ بخ، رجاء أن يكون من أهلها، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من أهلها، فلم يُرِد المكوث حتى لدقائق قليلة يأكل ما في يده من تمرات، فرمى بها وهبّ مسرعا فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه وأرضاه. [مسلم]
وكلنا سمع بقصة أنس بن النَّضْرِ -رضي الله عنه- الذي قال: يا رسول الله، غِبْتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين لَيُرِيَنَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحُدٍ تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنَّة وربِّ الكعبة إنِّي أجِدُ ريحها من دونِ أُحُدٍ، قال سعد -يبين عظيم فعل أنس بن النضر-: فما استطعت يا رسول الله ما صنع! قال أنس بن مالك: فوجدنا به بِضْعَا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة بِرُمْح، أو رَمْيَة بسهم، ووجدناه قد قُتل ومَثَّل به المشركون، ومن كثرة الطعنات والضربات تغيرت ملامحه حتى ما عَرفه أحدٌ إلا أُختُه بطرف أصابعه. قال أنس: كنَّا نرى أو نَظُنُّ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: ٢٣]
وذاكم الأخرم الأسدي رضي الله عنه، حين رجع المسلمون من الحديبية جاء قوم من المشركين فغاروا على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقهم سلمة بن الأكوع لوحده حتى استنقذها منهم، ثم ما هي إلا لحظات فإذا بفوارس النبي صلى الله عليه وسلم تتخلل الشجر وأولهم الأخرم الأسدي آخذ عنان فرسه، فقال له سلمة: يا أخرم، احذر القوم فإني لا آمن أن يقطعوك، فانتظر حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحُل بيني وبين الشهادة، قال: فخليت عنان فرسه فلحقهم فقاتل فقتل. [مسلم]
فنعم الرجال والله، وهذا البراء بن مالك البطل الكرار، فعل يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ما لا يُنسى، إذ أمر أصحابه أن يحتملوه على ترس، على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم، وشد عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، فجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحا، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرا يداوي جراحه. [سير أعلام النبلاء]
ولم يزل الصحابة رضوان الله عليهم يضربون الأمثال في التضحية لمن بعدهم، قال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أُثبِتُوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور، رضى الله عنهم. [البداية والنهاية]
وفي يوم اليرموك أيضا قال رجل لأبي عبيدة: إني قد أجمعت على أمري أن أشد عليهم، فهل توصوني إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: تقرئه السلام وتخبره أنا قد وجدنا ما وعد الله ورسوله حقاً.
ورُوي أن أبا موسى الأشعري حضّ الناس على القتال في إحدى المعارك، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى آنت سمعت رسول الله يقول هذا؟ قال: نعم، قال فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل. [مسلم]
وقال مالك بن دينار: لما كان يوم الزاوية قال عبد الله بن غالب: "إني لأرى أمرا ما لي عليه صبر روحوا بنا إلى الجنة"، قال: فكسر جفن سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل، قال: فكان يوجد من قبره ريح المسك. [حلية الأولياء]
الإنغماس جهادٌ لا تهلكة
وليس الانغماس من التهلكة في شيء ففي غزوة القسطنطينية حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري وأخبرهم أن تأويلهم للآية في غير محله ثم قال: فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. [سنن الترمذي]
وفي يوم نهاوند، أُخبِر عمر رضي الله عنه بالقتلى فقالوا: فلان وفلان ورجل شرى نفسه، فقال رجل من أحمس يقال له مالك بن عوف: ذاك خالي يا أمير المؤمنين زعم ناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذب أولئك، بل هو من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا. [سنن البيهقي]
فبتلك المواقف ونظائرها بدماء وأشلاء خيرة خلق الله -رضي الله عنهم- والذين لم يُؤثروا سلامة أنفسهم على التقصير في نشره، بلغ الدين مداه، وتهاوت قلاع الكافرين.
وفي هذا الزمان رأينا من جنود الخلافة -أعزها الله- الذين ثبّت الله بهم الدين ما يثلج الصدور ويبشر بأن الخير في أمة التوحيد ما يزال، وأن الذين تربوا على القرآن والسنة تتشابه أفعالهم وتتماثل بطولاتهم، فلقد سطر حملة راية التوحيد بعملياتهم الاستشهادية والانغماسية بطولات تذكّرنا بالصحابة رضوان الله عليهم، فنجد لتلك العمليات أثرا عظيما في فتح البلدات أو دكّ أسوار السجون.
وكلا البابين واحد الاستشهاد والانغماس فمبتدؤه واحد بالنية المبرمة فيه بغلبة الظن على القتل في سبيل الله، وسواء من ألقى نفسه بينهم فقتل وقتلوه، أو توسطهم ففجّر فيهم فكلٌ مثخن في سبيل الله، وإن كانت العملية الاستشهادية أعظم أجرا وأثرا، وأبلغ في الوصف (من عقر جواده، وأريق دمه). [الدارمي]
وإن كان الجهاد ذروة سنام الإسلام فإن الاستشهاد والانغماس ذروة سنام الجهاد؛ لأنه أكثر ما يشفي صدور المؤمنين ويرهب أعداء الدين ويقض مضاجعهم ويحرض القاعدين والمترددين.
فأين المشمّرون لجنات النعيم؟ وأين حماة الدين والعِرض؟ وأين صنّاع الفتح لأمة الإسلام؟ قد عرفتم فهبّوا، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة النبأ – العدد (323)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفريغ : مؤسسة الخير الإعلامية .